الشعر هو ان تتحول نبضات القلب الى رتل لا نهائي من الجمرات! تلج ارواحنا على اجنحة العذوبة من البوابة الذهبية للانسانية . هو مزيج من سحر الغروب الحزين وانطلاقة الفجر المتفائل.
لقد استطاع الشعر العظيم وعلى امتداد الحضارة الانسانية ان يقيم علاقة في منتهى الشفافية مع اصدق المشاعر واكثرها اخلاصا وان ينبت شجرة فردوسية تلقي بظلالها الوارفة على جوع الانسان للجمال وقد كان طاغور شاعر الهند العظيم احد هذه الظلال.
ولد رابند رانات طاغور في السادس من ايار عام 1861 في مدينة كلكتا في اسرة هندية عريقة في النبل والده هو (دافندرانات طاغور) وكان يلقب ب¯ المهارش اي القديس باللغة البنغالية لما عرف عنه من ورع وتقوى سافر طاغور الى انكلترا لدراسة القانون في كلية برايتون, الا ان ميوله الادبية كانت اقوى, فبدأ ينهل من معين الادب الانكليزي الامر الذي اعانه فيما بعد على نقل بعض مؤلفاته الى الانكليزية نشر طاغور ديوانه الاول ( اغاني المساء) وهو لا يزال في ريعان الشباب , فكان برعم النجمة التي آذنت بتفتح شمس الابداع لدى الشاعر الكبير في بداية العشرينيات من عمره اختارت له اسرته فتاة صغيرة لا تتجاوز الثانية عشرة لتكون زوجا له , استجاب طاغور لرغبة الاسرة فقد كانت التقاليد في الهند تقسر الفتاة والفتى على الخضوع لارادة الاسرة في اختيار شريك الحياة لكن حياته الزوجية كانت سعيدة ومنسجمة مع شخصيته كمبدع كبير, يمتح طاغور من معين الحبور والطمأنينة, قائلا:( لقد هلت الفرحة مسرعة من جميع اطراف الكون لتسوي جسمي , لقد قبلتها اشعة السماوات ثم قبلتها حتى استفاقت الى الحياة , ان ورد الصيف المولي سريعا قد ترددت زفراته في انفاسها وغنت وسوسة المياه وهينمة الرياح في حركاتها.
ان الالوان المتقدة من الغيوم والغابات قد انثالت الى حياتها .. انها زوجي .. لقد اشعلت مصباحها في بيتي واضاءت جنباته ) الا ان الكارثة ابت الا ان تطفئ شمس سعادته بيدها السوداء , اذ خطفت المنية زوجه وهي لا تزال في ميعة الصبا, وبعد فترة قصيرة لحق بها ابنه وابنته, كادت هذه الضفيرة الموحلة من النوائب ان تقضي عليه لولا ايمانه بأن الموت هو صفحة تطوى لتفتح صفحة اكثر جمالا واكثر تألقا, فكتب في ديوانه ( الهلال ) : ( ان عاصفة الموت التي اجتاحت داري فسلبتني زوجي واختطفت زهرة اولادي , اضحت لي نعمة ورحمة فقد اشعرتني بنقصي وحفزتني على نشدان الكمال)..
من ذهب العبقرية الذي اذابته المعاناة صنع طاغور سبيكة ديوانه الرائع ( جيتنجالي) الذي قال عنه الكاتب الفرنسي اندرية جيد : ليس في الشعر العالمي كله ما يدانيه عمقا وروعة) .
( ايه ايها الموت .. يا منتهى حياتي الاسمى.. تعال واهمس في اذني يوما بعد يوم .. سهرت في انتظارك, من اجلك تذوقت هناءة الحياة وعانيت عذابها ) . وتتجول موهبة طاغور الكبيرة بين خمائل الفلسفة والشعر والرواية والمسرحية فتنهل من رحيقها ما تشاء محولة اياها الى نتاجات فنية عظيمة تموج فيها جواهر الابداع من مختلف الاشكال والالوان فيفوز بجائزة نوبل لعام .1913
توفي طاغور في الثامن من آب عام 1941 عن عمر يناهز الثمانين فبكى الجميع الانسانية التي تجسدت فيه بأبهى صورها يقول في احدى قصائده التي كتبها في اواخر حياته وكأنه ينهل من معين الرؤى والتنبؤات :( اعلم انه سيأتي يوم اضيع فيه هذه الارض عن ناظري, ان الحياة تغادرني بصمت بعد ان تسدل على عيني الستار , ومع هذا فان النجوم ستتلامح ساهرة في الليل , وستمتلئ الساعات , كما تمتلئ امواج البحر.. حاملة معها اللذات والآلام..