[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن تربية النفس وتزكيتها أمر مهم غفل عنه أمة من الناس، ومع انتشار الخيروكثرة من يسلك طريق الاستقامة ويعمل في حقل الدعوة إلا أن البعض يرومالصواب ولا يجده، وينشد الجادة ويتيه عنها، تقطعت به السبل وانبرى لهالشيطان فاتخذه مطية له ومركبا سهلا يسير به في لجج الرياء والسمعة والعجبوالمباهاة، ظلمات بعضها فوق بعض.
ولقتل حظوظ النفس هذه، لا بد من التمسك بالإخلاص الذي هو حقيقة الدين ومفتاح دعوة الرسل عليهم السلام، قال تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } [البينة:6]
وقال الله عز وجل : { الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا } [الملك:2]
قال الفضيل بن عياض: "هو أخلصه وأصوبه".
قال صلى الله عليه وسلم في الحديث العظيم الذي هو أصل من أصول الإسلام : « إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى.. » [رواه البخاري ومسلم].
وقال صلى الله عليه وسلم : « ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه » [رواه الترمذي]
قال ابن تيمية رحمه الله : " إن الإخلاص أهم أعمال القلوب المندرجة فيتعريف الإيمان، وأعظمها قدرا وشانا، بل إن أعمال القلوب عموما أكبر وأهممن أعمال الجوارح، ولا يغتر المسلم فإن أداء الطاعة بدون إخلاص وصدق معالله لا قيمة له ولا ثواب، بل صاحبها متعرض للوعيد الشديد، وإن كانت هذهالطاعة من الأعمال العظام كالإنفاق في وجوه الخير وقتال الكفار وغيرها ".
وحتى هذا العلم الذي ينفع الله به البلاد والعباد إذا لم يكن صاحبه صادقالإخلاص لله عز وجل في طلبه، ثم في بذله فإنه متوعد يوم القيامة على لسانرسول الله صلى الله عليه وسلم : « من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله عز وجل، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة (يعني ريحها) يوم القيامة » [رواه أبو داود]
ومن صور تلك الحظوظ المهلكة: [size=16]أولا: محبة المدح والثناء: فتراه يطل برأسه وترتفع هامته وتشرف نفسه إلى صوت مادح، أو ثناء في مجلس.
قال الحسين بن زياد: "لا يترك الشيطان الإنسان حتى يحتال له بكل وجه،فيستخرج منه ما يخبر عن عمله، لعله يكون كثير الطواف، فيقول: ما كان أحلىالطواف الليلة، أو يكون صائما فيقول: ما أثقل السحور، وما أشد العطش، فإناستطعت أن لا تكون محدثا ولا متكلما ولا قارئا، إن كنت بليغا، قالوا: ماأبلغه وأحسن حديثه وأحسن صوته، فيعجبك ذلك فتنتفخ، وإن لم تكن بليغاقالوا: ليس يحسن يحدث، وليس صوته بحسن، أحزنك وشق عليك، فتكون مرائيا، إذاجلست فتكلمت ولم تبال من ذمك ومن مدحك من الله فتكلم".
ثانيا: كثرة الحديث عن أعماله وما لاقاه من كد وتعب ونصب، وهذه قد يكونظاهرها محبة هذا الدين وبث الحماس لكنها في قرارة النفس إبراز أعمال الشخصوما يلاقيه في سبيل الدعوة، رغبة في رفع مقامه لدى الناس وتصيد قلوبهموكسب ثنائهم.
قال القرطبي- رحمه الله: "حقيقة الرياء طلب ما في الدنيا بالعبادة وأصله طلب المنزلة في قلوب الناس".
ثالثا: نسبة عمل الجماعة إليه، فتراه يحب أن يظهر أمام الرؤساء والمديرينعلى أنه الرجل الذي قام بالعمل، وهو صاحب الفكر، وهو الذي أشار بالأمر!وقد يستمر به مسلسل الادعاء حتى يقع في خطر أعظم وهو نسبه أعمال إليه لميقم بها، وينطبق عليه قول الله تعالى : {
لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم } [آل عمران:188]
رابعا: ذم النفس، يريد بذلك أن يرى الناس أنه متواضع عند نفسه، فيرتفعبذلك عندهم، ويمدحونه به وتنطلق الألسنة تثني على تواضعه وما أزهده وماأنبله!! وهو والله ما أهلكه.
خامسا: التحدث بكثرة الداخلين عليه والخارجين منه، وأنهم لم يتركوا لهوقتا للقراءة وهذه من تلبيس إبليس على العاملين، فتراخ يتحين الفرص للجوابعن سؤال عن القراءة أو الإنتاج العلمي ليخبرك أنه مشغول مع الناس وكثرةسوادهم لديه وأنه مقصد لهم، ولهذا ضاعت عليه الساعات الطوال!
قال سعد بن عبد الله: "نظر الأكياس في تفسير الإخلاص، فلم يجدوا غير هذا:أن تكون حركته وسكونه في سره وعلانيته لله تعالى، لا يمازجه شيء، لا نفس،ولا هوى، ولا دنيا".
سادسا: العجب بالنفس، وأعمالها وتفانيها في خدمة الناس وانه قدم وقدم،وفكر وقدر، ومساء البارحة لم تكتحل عينه بالنوم هما وغما لحال المسلمين،فرحم الله حصين بن عبد الرحمن عندما قال: "أما إني لم أكن في صلاة ولكنيلدغت".
قال مسروق: "كفى بالمرء علما أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلا أن يعجب بعمله".
وقال عبد الله بن المبارك في تعريف العجب: "أن ترى الناس عندك شيئا ليس عند غيرك".
وقال ابن القيم في الفوائد: "لا شيء أفسد للأعمال من العجب ورؤية النفس،ولا شيء أصلح لها من شهود العبد منة الله وتوفيقه والاستعانة به والافتقارإليه وإخلاص العمل له".
وتأمل في حال من أعجبته نفسه في حلة لبسها، قال صلى الله عليه وسلم : «
بينما رجل يتبختر في حلة قد أعجبته نفسه إذ أمر الله الأرض فأخذته، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة » [متفق عليه]
سابعا: استغلال الفرص لإبراز الأعمال، فإن ذكرت آسيا فهو الخبير بها، وإنذكرت أفريقيا قال: لي عشر سنوات وأنا أذهب إليها سنويا مرة أو مرتين، وإنكان الحديث عن أوروبا فإنه هو الذي دفع بالشباب ليذهبوا هناك حيث الدعوةوالإغاثة، وأنهم وافقوا بعد جهد وعناء بذله!
وإن تحدثوا عن الفقراء، فهو العليم بأحوالهم المتابع لأخبارهم، ثم يسرد لك ما يعرف وما لا يعرف.
وإن كان من أهل مغاسل الأموات بدأ حديثه بخمسة عشرة جنازة غسلها في يومواحد، ثم نقلك بحديثه إلى السدر والكافور لكنه ليس مذكرا ومخوفا! بل مدعيامباهيا.
والآخر مما يعلمون في نصح الناس يسرد لك الأمر سردا، ثم يضاعف الأرقاممضاعفة عجيبة وكيف اهتدوا على يديه! ونسي المسكين أن الأمة هداها الله عزوجل على يد رجل واحد صلى الله عليه وسلم، وأن أبا بكر- رضي الله عنه- أسلمعلى يديه ستة من العشرة المبشرين بالجنة. هذا قبل الهجرة فحسب، فأين الثرىمن الثريا؟!
ثامنا: ذكر تقدير العلماء والمشايخ له، وأن فلانا من طلبة العلم خصنيبحديث لا يعرفه أحد، وأن فلانا من العلماء سألني عن كذا وكذا وقام وودعنيبنفسه! وسلسلة الخرز هذه طويلة إذا اقنطعت!
قال محمد بن واسع: "إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته معه لا تعلم به".
تاسعا: ذم الآخرين لإبراز نفسه ووجه نظره، فلو كنت مكان فلان ما فعلت،ولماذا الاستعجال، الأمور تؤخذ بعقل.. ثم يسرد لك موقفا يظهر فيه نفسهوكيف تصرف بحكمة واتزان وأنهى الأمر حسب ما يراه!
قال بعض العلماء: آفة العبد رضاه عن نفسه، ومن نظر إلى نفسه باستحسان شيءمنها فقد أهلكها، ومن لم يتهم نفسه على دوام الأوقات فهو مغرور.
وفي وسط هذه المهلكات- والعياذ بالله- تبرز صور مشرقة لأهل الإيمان ممنقتلوا حظوظ النفس.. فما أجمل صورة ذلك المؤمن الذي يعمل ويكره أن ينسبإليه شيء، وما أعظم من يجد ويجتهد ولا يرى نفسه إلا أنها حقيرة في جنبالله، بل ما أعظم من كتم حسناته كما يكتم سيئاته!
ولأهل الدعوة يقول ابن الجوزي: "ما أقل من يعمل لله تعالى خالصا، لأن أكثرالناس يحبون ظهور عباداتهم، اعلم أن ترك النظر إلى الخلق، ومحو الجاه منقلوبهم بالعمل وإخلاص القصد وستر الحال هو الذي رفع من رفع".
ولأهل الآخرة قال سهل بن عبد الله: "ليس على النفس شيء أشق من الإخلاص لأنه ليس لها في نصيب".
أخي المسلم: كان الحسن يقول: "روي أنه من قبل الله تعالى من عمله حسنةواحدة أدخله بها الجنة، قيل: يا أبا سعيد: فأين تذهب حسنات العباد؟ فقال:إن الله عز وجل إنما يقبل الخالص الطيب المجانب للعجب والرياء، فمن سلمتله حسنة واحدة فهو من المفلحين".
عاشرا: لإظهار النفس ترى البعض إذا عرض عليه عمل وإن كان يسيرا اعتذرمباشرة وله الحق إن شاء ذلك، لكن أن يعتذر بادعاء كثرة الأعمال والانشغالوتعدد الارتباطات و..! بل أصبح الادعاء بكثرة الأعمال موضة ظاهرة على ألسنبعض الناس، ومن الطرائف أن رجلا خطب امرأة وذكر لها انه مشغول بأمر الدعوةوأسهب في ذلك وقد لا يجد الوقت لإعطائها حقها. فردته وقالت إما أنه كاذبأو مراء. كاذب يدعي، أو يراءي ليرتفع في عيني، وإلا أين هو من رسول اللهصلى الله عليه وسلم، وأين هو من العلماء العاملين؟!
الحادي عشر: أحدهم يزور مكتبا للدعوة دقائق معدودة كل ثلاثة أشهر، وكلماجلس مجلسا تحدث عن المكتب وأعماله وإنجازاته وتسيد الحديث وكأنه المسؤولالأول عن المكتب فيظهر دقيق الأمور وجليلها، ثم يطرح ما قرأ من مشاريعوطموحات ليوهم أنه يحمل هم الدعوة وأنه يجد مشقة في التردد على المكتب.
الثاني عشر: هناك من تستشرف نفسه لدرع يقدم له أو شهادة شكر تصل باسمه!ويصغي بسمعه أن يثنى عليه وعلى جهده! أو يتحدث ويكتب عن سيرته ماذا قدموفعل؟!
أخي المسلم: كل عملك الذي تقدمه فهو قليل في جنب الله وإن ظهر لك مثلالجبال. فاجمع على قلبك الخوف والرجاء وتذكر قول ابن عوف: "لا تثق بكثرةالعمل فإنك لا تدري أيقبل عنك أم لا؟! إن عملك مغيب عنك كله".
واحفظ عملك بالإخلاص، واكتم حسناتك كما تكتم سيئاتك، وأبشر بخير عظيم إذاقصدت وجه الله عز وجل، يقول ابن تيمية في هذا الشأن: "والنوع الواحد منالعمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه وعبوديته لله، فيغفر اللهبه كبائر الذنوب كما في حديث البطاقة، فهذه حال من قالها بإخلاص وصدق، كماقالها هذا الشخص، وإلا فأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلهم يقولونالتوحيد، ولم يترجح قولهم على سيئاتهم كما ترجح قول صاحب البطاقة". ثم ذكر–رحمه الله- حديث المرأة البغي التي سقت كلبا فغفر الله لها، والرجل الذيأماط الأذى عن الطريق فغفر الله له، ثم قال: "فهذه سقط الكلب بإيمان خالصكان في قلبها فغفر لها، وإلا فليس كل بغي سقط كلبا يغفر لها. فالأعمالتتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإجلال".
أخي المسلم: أسباب الرياء وبواعثه ترجع إلى ثلاثة أصول:
الأول: حب لذة الحمد والثناء من الناس.
الثاني: الفرار من الذم.
الثالث: الطمع فيما أيدي الناس من مال أو جاه و غيره.
وهذه الأمراض خطيرة على الإنسان وربما تكون سببا في سوء خاتمته لأن ظاهره مخالف لباطنه- والعياذ بالله-.
وليتذكر احدنا قول الحسن: "رحم الله رجلا لم يغره كثرة ما يرى من الناس.ابن آدم، إنك تموت وحدك، وتدخل القبر وحدك، وتبعث وحدك، وتحاسب وحدك".
جعل الله أعمال الجميع صوابا خالصة لوجهه الكريم، لا رياء فيها ولا سمعة،ولا عجب ولا منة، بل المنة والفضل لمن هدى ووفق وأعان وسدد جل وعلا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم