الجار البعيد

الجار البعيد

كانت الأرض تمتد عامرة بالمناظر التي تخلب اللب ، والمغطاة تارة بشجيرات البطوم ، وتارة أخرى بمساحات شاسعة من الأراضي البور ، التي تتوسطها بعض البقع المخضرة ببعض المحاصيل .

وفيما كنت اسرح ببصري بين محتويات هذه اللوحة ، سمعت صوته .... كان يردد إحدى أغاني العلم بصوت فيه رنه حزن ....توقفت للاستماع ، فقد كنت أحب هذا النوع من الأغاني خاصة في هذا الموقع ؛

اقتربت منه بعد أن انتهى من ترديد أغنيته ؛ فلم أكن أحب أن اقطع علية عليه انسجامه ..... كان شابا في مقتبل العمر ، يرتدي ملابس عربية ، علي ظهره كيس صغير وتحيط به أغنامه .
جلست بجانبه بعد أن سلمت ، وما هي إلا لحظات حتى قام وجمع بعض الحطب وأشعل النار وابتدأ يعد الشاي ، وتناولنا أحاديث شتى .... ولكني لاحظت عليه شرود في الذهن ، ورأيت علي وجهه أمارات حزن عميق .

ألححت عليه أن يخبرني أسباب حيرته وحزنه فقام ، وألقي نظرة علي أغنامه التي ترعي في هدوء ، ثم جلس وقدم لي كوباً من الشاي وكسرة خبز أخرجها من كيسه ....
أعدت عليه سؤالي عن السر في أحزانه ....فلما رأي إصراري علي معرفة السبب قال بعد أن أطلق تنهيدة عميقة :

إن قصتي طويلة وحزينة ارجوا أن تصبر علي حديثي لك عنها ..... ولعلك قد سمعت الأغنية التي كنت أغنيها وعرفت السبب ، ولعلك سمعتها ولم تفهم معناها .... عندما كنت في العاشرة من عمري .... أعيش في أسرة لا أطفال فيها غيري ... أبي يشتغل في فلاحة الأرض وأمي تقوم بأعباء المنزل ، وأساعدهم أنا برعي الأغنام ... في تلك الفترة مرضت أمي مرضا لم يمهلها طويلاً حتى توفيت .... مرت سنون طويلة ذقنا فيها مرارة العذاب في محاولاتي مع أبي للتوفيق بين أمور البيت والمزرعة ورعي الأغنام .... لم يكن يخفف من عذابي سوي معرفتي بمريم وهي ابنة احد الفلاحين في القرية ... عند لقائي بها أحس بفرحة نفسية لا قدرة لي علي وصفها .... ولكنني لسبب لم اعرفه لم أجد الفرصة ولا الشجاعة لأحادثها بما يكن في قلبي لها من حب .

وحدث ما لم يكن في الحسبان ...

فقد أجدبت الأرض وقل الماء وكان لابد من الانتقال بالأغنام إلي منطقة كثيرة الكلأ غزيرة الماء ... واقترح أبي أن أذهب بالأغنام إلي منطقة بها ماء ويبقي هو ليهتم بأمور البيت والمزرعة ...
وكان أن تركت مريم وذهبت بالأغنام إلي مكان بعيد ، وكان كل يوم يمر بي كأنه سنه ، وكنت أحس بالشوق إلي مريم أكثر من أي وقت مضي .

توقف هنا قليلا ليقوم ويلقي نظرة علي أغنامه التي ترعي في هدوء ، ثم عاد إلي مجلسه بجانبي ، وقال موصلاً سرد قصته :

لقد استقبلني أبي عند عودتي علي غير عادته ، كان سعيداً جداً بعودتي وقال لي أنه يعد لي مفاجأة سارة ، وعندما سألته قال لي : إنني سأجدها في البيت ، وزاد قائلاً " ستجد مريم " وعقدت الدهشة لساني تري ماذا يقصد أبي بذلك ؟؟

وعرف أبي استغرابي وأراد أن يوضح لي ، فقال والابتسامة تكبر علي شفتيه :
لقد تزوجت ، فقدت مرت مدة طويلة و أنا أفكر فيمن يهتم بالبيت ولم أجد خيراً من مريم ، فما رأيك ؟

كتمت رغبتي في الصراخ في وجه أبي الذي سلبني أعز من أحب وتزوج من حبيبتي .
أجبت أبي ..." حسناً فعلت ، مبروك " وقام إلي أغنامه قائلاً لي : هل استرحت ؟
وظللت أتابع الرعي يجر خطاه وراء أغنامه مردداً أغنيته الحزينة ؛ التي هي أبلغ من كل الكلام :

تباعد أقرب من الدار **** عزيز وين ما جاور صعب .