يكتف شاعرنا بنظم القصائد وهو بعيد عن ساحات الوغى, بل كان في مقدمة الصفوف, يستلهم قصائده من طلقات البارود, وقرع الطبول، وهمهمات الجياد, وزغاريد النساء, وجهاد شعبنا ونضاله.. إنه الشاعر الشعبي رجب بن حمد بوحويش بن شغميم بن بو حليقة بن عبد الرحمن الخائب، الذي ولد في الخامس عشر من يناير سنة 1879م، في أواخر العهد العثماني الثاني, بزاوية المرصص غربي مدينة طبرق, بحوالي 30 كيلومتر. أما أمه فهي امتلية بنت بوشناف من عائلة الجويفي قبيلة البراعصة, الزوجة الثالثة لوالده. والشاعر من قبيلة المنفة التي ينتسب إليها شيخ الشهداء عمر المختار. ورجب بوحويش هو من عشيرة علوم عائلة الخائب التي تقطن مؤتمر بالخاثر, غربي مدينة طبرق بحوالي 40 كيلومتراً.. وقبيلة المنفة مدحها شاعر التميمي الكبير صالح بومازق الرفادي بقوله:
علوم روس ومسيكه حماة الخايف لا يكسبوا عايب ولاغوا ره
جرايين للصاحب بكل طرا يف نصابين للحلة اللي فواره
وكذلك الشاعر الشعبي الكبير الطالب دخيل الشهيبي خص عائلة الخائب بهذه الأبيات:
لوكان جولتي شور لامين وعيت بوحويش السمايا
إن كان جيت مالي الدزاتين ومحمليني بالهدايا
هل بيوت كيف الدكاكين ضوى ضيهن ع الضوايا
ووقوف بالصفر والسخاخين مناديه ماهم ونايا
يبات ضيفهم في طناطين واكل شهاوي الغوايا
تربى شاعرنا ونشأ في بيت من أرفع البيوت العربية منزلة وكرما وشهامة وقولا للشعر الشعبي, فنشأ هو الآخر يجيد قول الشعر الشعبي، وان كنا نجهل أول قصيدة شعبية قالها, وذلك لضياع معظم أشعاره وقصائد الشعبية في مرحلة صباه وشبابه. وعاصر شاعرنا أواخر العهد العثماني, حيث كانت منطقة طبرق مديرية تتبع قائمقامية درنة, وتضم جماعات قبائل البطنان ودفنة, والضرائب كانت تجبى من الأهالي بالسوط والشدة والعنف, والوظائف والمناصب كانت مقتصرة على العثمانيين فقط. ومرت البلاد بسنوات مريرة من الجفاف والقحط وسوء الحالة الاقتصادية, وعدم اهتمام الإدارة العثمانية بالتعليم وتفشي الأمية, وعدم وجود ثقافة منتشرة بين أبناء الشعب الليبي, فاللغة التركية كانت هي السائدة والرسمية في المخاطبات والمكاتبات والدواوين، مما كان له تأثيره على الشعر الشعبي. والتعليم الديني في الكتاتيب والزوايا كان هو التعليم السائد في تلك الفترة, حيث تلقى رجب بوحويش تعليمه الديني في زاوية المرصص, على يد شيخها صالح الشريف, وظهر نبوغه وحفظه للقران الكريم. التحق بعدها بمعهد الجغبوب الذي كان في تلك الفترة منارة للعلم والعلماء، ويشبه إلى حد كبير جامع الأزهر بمصر وجامع الزيتونة بتونس وعاد شاعرنا بعد عدة سنوات قضاها في تلقي العلم هناك, عاد إلى أهله حافظا لكتاب الله القران الكريم ومتفقها في أصول الدين.
تلك الفترة وصلت البلاد إلى حالة باعثة على الرثاء, من التدهور السياسي والتفكك الاقتصادي, وأصبحت الدولة العثمانية في أواخر عهدها منهوكة القوى ممزقة الأطراف, وبدت من الشعب الليبي علامات السخط والاستياء، ونتيجة لذلك أخذ الاستعمار الأوروبي يمهد لاحتلال الوطن العربي, فأخذت إيطاليا تنشئ المدارس الإيطالية لجاليتها, وأسست بنك روما, للتمهيد لغزو البلاد الليبية, واستولت بريطانيا على مصر سنة 1882م وعلى السودان سنة 1889م، واستولت فرنسا على الجزائر سنة 1830م وعلى تونس سنة 1881م.
توفي والد شاعرنا رجب بوحويش ولم يترك له ولأخوته بشير ولامين وعبد القادر ويوسف وحمد سوى قليل من الأغنام والماعز، وكانت حرفة سكان البطنان ودفنة هي الاعتماد على الزراعة في موسم الأمطار, والرعي والعناية بالماشية والسعي وراء مواطن الكلأ وآبار المياه. ارتحل شاعرنا ينشر العلم ويحفظ القران في المناطق النائية, حيث استقر بمنطقة الكفرة، وأخذ يعلم أبناءها الفقه وأصول الدين ويحفظهم القران الكريم. وتزوج من تلك المنطقة بفتاة من قبيلة زويه تدعي سدينه ابوبكر اقويطين, وبنى لها منزلا هناك. كما انتقل بعدها إلى تشاد, لنشر الدين الإسلامي هناك وتعليم أهلها مبادئ العبادات, وحثهم على محاربة الغزو الفرنسي هناك, غير أنه ما أن علم باحتلال إيطاليا لبلاده سنة 1911م حتى أسرع بالعودة إليها صحبة المجاهد أحمد الشريف وغيره من المجاهدين، كما كرس حياته للجهاد ضد الغزو الإيطالي, الذي عندما أحس بخطره عرض عليه قبول وظيفة, أو استلام مبلغ كبير من المال, أو منحه راتباً شهرياً، لكنه رفض كل ذلك, ولم يغره الجاه أو المال أو المنصب. عندها لم يجد العدو بدا من الانتقام منه, وبينما كان المجاهد رجب بوحويش عائدا من مهمة كلفه بها شيخ المجاهدين عمر المختار, في جلب المساعدات للمجاهدين في معركة بئر الغبي التي وقعت بتاريخ 1923، وكانت بقيادة شيخ المجاهدين عمر المختار ومعه العديد من المجاهدين من قبائل الشهيبات والمنفة والسنينات، وانتصر فيها المجاهدون على الطليان، واستشهد فيها المجاهد مرجان العبد السوداني، وقال فيها الشاعر طالب دخيل الشهيبي الذي اشترك في هذه المعركة:
زينك يوم يوم الغبي بيده سلك يوم تكتيفة حسن
طرمبيلات ما فيهن عقيدة ضليل الراي داعاهن وجن
علي طابور متوكل قليده على الله و كتابه حصن
ضنا مناف جن طرحه بجيده أرسال أرسال كادن من يعن
اشهيبات ضربتن قصيده نهار الشوم عادتهن لهن
دار الدرع واطّرطش حديده بما فاتور كيف أصادرن
المخبر ضاع والسكة بعيدة ضنا الكفار تمن يلغثن
عطوهن زندات خلوهن قنيده ما ردت غير بوحيدة تخن
وبعد هزيمة العدو الإيطالي في تلك المعركة قام بإحراق بيت الشاعر رجب بوحويش ومصادرة مواشيه.. بل وحرق بيته في الكفرة.. والزج به مع المعتقلين في معتقل العقوبات معتقل العقيلة.
وقد كان للتعليم الديني الذي تلقاه المجاهد رجب بوحويش، سواء في زاوية المرصص الدينية أو في معهد الجغبوب الديني، التأثير الكبير على حياته ونشأته الإسلامية الخالصة، فقد عرف عنه إكرام الضيف، حيث كان يأمر بإيقاد النيران في أعالي الجبل بالقرب من نجع عائلة الخائب, حتى يرى الدخان عابر السبيل والتائه في مجاهل الصحراء، فيهتدي إلى ذلك النجع، عندها يكون الفقيه رجب في استقباله فيكرمه ويحسن ضيافته لعدة أيام. كما أن الفقيه رجب قد حنكته الحياة الصحراوية بقسوة ظروفها وطابعها البدوي, فنشأ هو الآخر كثير التجوال والتنقل والترحال.
كان يتمتع بمكانة طيبة بين قومه، فكان يحبه ويقدره الجميع, تزوج في حياته أربع مرات كانت آخر زوجاته هي عائشة بن عمران. اشتغل في حياته بالعديد من الأعمال كالتدريس وتجارة القوافل ومأذون شرعي. كما كانت له مقدرة فائقة في فض وحل المنازعات و المشاكل التي كانت تقع بين القبائل في تلك الفترة, كما كان متفقها في الدين، حتى انه لقب بالفقيه. يحفظ القرآن الكريم، ويؤدي الصلاة في أوقاتها، وله إلمام بأصول الفقه والشريعة.
عايش الفظائع الوحشية في معتقل العقيلة من الزج بالقبائل في ذلك المعتقل والتعذيب والإبادة الجماعية للمعتقلين والجلد والضرب بالسوط ونصب المشانق في داخل المعتقل وإطلاق الرصاص على كل من يحاول الهرب من المعتقلين والأمراض والأوبئة والجوع داخل المعتقل وجلد بناته بالسوط أمامه. وعندما تم أسر شيخ المجاهدين وإعدامه في سلوق بتاريخ 16/9/1931م ووصل خبر الإعدام إلى المعتقلين أقاموا مأتماً وعويلاً في العقيلة، وجاهر المجاهد الفقيه رجب بوحويش عندما انتشرت قصيدته التي قالها في معتقل العقيلة وفي رثاء عمر المختار. وعندما علم كسوني المكلف بإدارة المعتقل وأجرى التحقيق معه عن تلك القصيدة الشعبية وهل هو قائلها أجابه بنعم في كل شجاعة ورباطة جأش، فأصدر أمرا بمعاقبته، ولكن كل ذلك لم ينل من إيمان شاعرنا الفقيه رجب بوحويش وعزيمته الصلبة وإرادته القوية.
وتدور عجلة الزمن وتمضي السنوات وتتقدم السن بشاعرنا، فيتقوس ظهره، ويعتل جسمه ويشتعل رأسه شيبا, وكان يقوم بعمله على أكمل وجه في فض المنازعات بين القبائل والأفراد, بالإضافة إلى عمله كمأذون شرعي. وذات يوم تعرض لسقطة فكسرت ساقه, وسافر به ابنه المبروك إلى بنغازي للعلاج, ورقد طريح الفراش في مستشفى بنغازي، الذي كان يعاني من الإهمال وقلة العناية الطبية كغيره من مستشفيات بلادنا, ويقوم بزيارة الفقيه رجب بوحويش في المستشفى المذكور جمعية عمر المختار في تلك الفترة. ولم تمض عليه بضعة أيام في تلك المستشفى حتى تدهورت صحته وضعفت ووافاه الأجل المحتوم في الثامن عشر من سبتمبر سنة 1952م. شيع جثمانه ودفن في مقبرة سيدي عبيد بالصابري.
وتقديراً لدوره في حركة الجهاد أطلق اسمه على إحدى مدارس البطنان، وكذلك على المؤتمر الأساسي بالخاثر الذي تقطنه عائلته، ورثاه العديد من شعراء الشعر الشعبي من بينهم الشاعر المجاهد سالم احنيش المصموتي في قصيدة شعبية هذه أبيات منها:
سلامي عليكم يا كبار الهمه يا هل أماره من قديم زمان
يا هل فريق قول اخلف يعمه ملفى قديم للخايف وللجيعان
رجب بو حمد وقتا يجي للمه يجلى لها تجلاية الشيهان
ويطلع حجايج للعدو هن سمه وين ما يعيب معاه في الميدان
صاحب حكاية كي شراب الجمة تصيد بال من يشرب وهو عطشان
ودك سواله ع الزمان مخمه وودك يدرس لك على لديان
كبير فاهقه ما عد خلال يلمه ما زال صاحبه من تيقته بردان
كما رثاه الشاعر الراحل على الفزاني بقصيدة يقول في مطلعها /
لم يكن بوحويش إلا رافضا انطق المأساة خلقا لا اغتصابا
حاضر شاعرنا في كل قرية في الأهازيج حنوا ولبابا .